دخلت الحرب على سورية عامها السابع. حرب قذرة الوسائل والأهداف والغايات والمنهجية. لم تكن نتائجها التدميرية مقتصرة على البنية التحتية التي طالت المؤسسات والمدارس والمشافي والمستوصفات والأبنية والشوارع وعطلت وأخرت عمل هذي المؤسسات. التدمير طال البنى الفوقية للفرد السوري وحطم العديد من المفاهيم والثوابت التي تم العمل على بنائها لسنوات طويلة قبل الحرب.
بعد أن تراجعت مظاهر الحرب نسبيا، بدأ التخطيط لعملية إعادة الإعمار وبما أن التدمير على مستوى الفكر والثقافة يوازي، ان لم يكن يفوق، تدمير البنية التحتية، اقتضى ذلك وضع الخطط التي من شأنها أن تعيد للفكر والعقل السوري ما فقده أثناء سنوات الحرب وما ينقصه لتجاوز الفجوة الثقافية التي أصابته والتي كان مخطط لها أن تتسع.
وضعت مؤسسات اجتماعية سورية، ضمن خطة اعادة الاعمار والبناء، العديد من المخططات والبرامج التي درست على نحو دقيق ما الذي يلزم البنية المجتمعية الثقافية والفكرية لسوريا لتكون قادرة على استعادة ما فقدته واستكمال ما بدأت به قبل الحرب.
اطلعت مؤخرا على مشروع بكرا النا الذي يتم برعاية محافظة دمشق التي تسمح للجهات الراغبة بالاسهام الفعال. برنامجه التفصيلي الهادف الى إعداد وتطوير العقل والفكر والثقافة لدى أطفال سوريا. بحيث يطرح البرنامج كل ما يلزم للنهوض بالعقل السوري وللبناء الصحيح للشريحة التي يعوَّل عليها في عملية بناء المستقبل الذي يليق بسوريا وأبناء سوريا.
ووجدت أن البرنامج ينطلق من حقيقتين هامتين جدا ألا وهما:
أن تصعيد الغرائز وسيلة أساسية لبناء الجيل وترميم ما تهدم بفعل الحرب.
والحقيقة الثانية هي أن الفراغ الذهني المرحلي عند شريحة الأطفال والمراهقين هي أخطر ما يمكن أن يصيب الفكر. لأن هذا الفراغ لا يظل فراغا الا لمدة زمنية محدودة جدا وسرعان ما يمتلئ الفراغ بمنظومة فكرية أخرى، وهنا مكمن الخطورة اذ قد تكون هذه المنظومة فاسدة أو رجعية أو تخريبية أو انغلاقية أو جمودية وهذا ما لا تتطلبه البنية الفوقية لسوريا الغد. هكذا منظومات لابد من محاربتها لتحل محلها أفكار خلاّقة انفتاحية تسهم في التطوير والتقدم والتنوير.
أول ما لفتني في برنامج بكرا هو المامه الواسع والدقيق لكل ما يعمل على احياء العقل وإعادة بناء ماتهدم خلال سنوات الحرب. ولأن الطفل عبارة عن حقول من الطاقة الكامنة فلذلك كان من الجيد أن تفرغ هذي الطاقة في مكانها الصحيح ومجالها النافع للفرد وللمجتمع. لذلك ركز مشروع بكرا النا على جميع أنواع الرياضات البدنية التي تقوم بتفريغ وتصريف جيد لطاقة الطفل. يهتم البرنامج كذلك بتدريب الأطفال على جميع أنواع الرقص العالمي الذي يثقف الروح والنفس قبل ان يروض البدن.
ولأهمية الدور الذي يمارسه المسرح في بناء ثقافة مميزة لدى الفرد، يهتم مشروع بكرا النا بالمسرح ويقدم للأطفال فرصة تعلم اصول المسرح وهذا ما يتيح له التعرف على المسرح العالمي الهام في تكوين البنية الثقافية له لمستقبل متألق لأبناء سوريا الحبيبة.
ولم ينس البرنامج الاهتمام بالموسيقا التي هي لغة العالم والانسانية اللغة العابرة الى العقول والقلوب دون ترجمات ودون تفسيرات. لذلك اهتم برنامج بكرا النا بتقديم دورات لتعلم العزف على الالات الموسيقية المختلفة. اضافة الى اهتمامه بتقديم معلومات وافية متكاملة عن موسيقيين عالميين كانت لهم بصمة مميزة في تاريخ الفن والفنانين. ولايمكن انكار الدور الهام والبارز الذي تمارسه للموسيقا في تهذيب النفس وتطوير العقل والارتقاء بالنوازع والغرائز. كذلك انها تقوي مالدى الطفل من مواهب وتعمل على تحويل نقاط الضعف عنده الى نقاط قوة..
وقد تنبه الجميع اثناء سنوات الحرب بلا شك، الى اهمية الاعلام ودوره في تسليط الضوء على الحقيقة ونقلها كماهي اذا ما أراد اكتساب مشروعية ومصداقية لدى الجميع. ودور الاعلام يدخل في اطار مايسمى الحرب الناعمة soft war والتي يعتبر الاعلام سلاحها النفسي الابرز . لذلك أقام برناج بكرا النا دورات في الاعداد الاعلامي الحقيقي الذي يلغي الصورة النمطية السابقة ويؤسس لحالة اعلامية قادرة اولا على منافسة اعلام الغرب المعادي وثانيا على ممارسة الحرب النفسية التي من شأنها أن تحقق كل ماهو أفضل لسوريا الغد.
وقد جرت العادة أن تهتم البرامج الاجتماعية التي تعنى بالأطفال بتلقف المواهب البارزة بتسليط الضوء عليها واهمال الأطفال غير الموهوبين الا أن برنامج بكرا إلنا يخرج من هذه القوالب الجاهزة ويتنبه الى ضرورة العمل على الحالات المعاكسة أي على أطفال لا يرغبون بالمشاركة ودراسة مشكلاتهم وتحفيزهم واستخلاص الكامن من مواهبهم وقدراتهم التي لم تساعد ظروف معينة أسرية أو اجتماعية أو اقتصادية على تفجرها وظهورها. وهذا ما يسهم في تنمية ذاته الابداعية وتعزيز ثقته بالنفس.
أذابت الحرب الفرد وقدراته وإرادته ورغبته بالمبادرة ، فيأتي برنامج بكرا النا ليعمل على اعادة هذه المفقودات لأن الفرد عماد المجتمع. وعملية إعادة بناء الوطن لا تتم الا بإعادة القيمة والاعتبار للفرد وإرادته وقدرته.
(اللاذقية – جامعة تشرين )